وهكذا كنت قد اقتربت من موعد الامتحانات فشدّ الرّحال للسّفر، بين الدروس تثبت في البيانات والعلاقات المنطقية، حتى تستطيع أن تنجح بدون صعوبة، إن الحكمة في الفلسفة والقانون وفي الرّياضيات، فأربط الأشياء بعضها البعض فلا وجود لمادة منفصلة عن الأخرى، لأنّ العلم يا ولدي يشكل وحدة طبيعية، وهذه الوحدة تعني البحث في الأجزاء المكونة لها، فبمعرفتك لهذه الأجزاء الصغيرة تكون قد ضمنت لنفسك النجاح، وقد أوصيت الوالدة أن تسهر من أجل أن توفر لك كل الظروف المناسبة، حتى تصل إلى مرادك وكان الله في عونك، فإني لو كنت أفهم كثيرًا لما جلست إلى مكتبك، وأوضحت لك ما صعب عليك من تحاليل و تقارير. أمّا من الناحية المادية فلا أريد منك أن تفكر في ذلك، فستجد على مكتبك هذا بعضا من المال عند كل صباحٍ، فإني أودّ أن تكون من النجباء.
وهكذا فإنك لم تجبني ولو بالشكر، ولم تتكلم وكأني بك لم تسمعني، قد قرّرت مصيرك قبل حتى أن تدخل قاعة الامتحان...إعلم يا ولدي انك ولأوّل مرّة ستقف ولو لبعض السّاعات أمام نفسك بصدق، وتعرف بذلك مستواك وتتيقّن من دارتك... وبذلك ستكتسب الثقة بنفسك وتكون قد دخلت معركة الحياة... ليس لي ما أضيفه إليك هذه الليلة سوى البيان " وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" صدق الله العظيم.
كانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحًا، لم أستطع أن أنام و لم تنم هي بجنبي، بل جلست إلى السرير فجلست إليها، وقلت البركة في يديك والحب في عينيك وإني أرى النجاح على صدرك، وأنه سينجح إن شاء الله ...فبكت حبيبتي ملئ جفنيها و نامت دون أن تقول شيئا، خرجتُ من البيت إلى الساحة وأشعلت سيجارة ومكثت في الهواء بعيدا بعيدًا، كنت أعرف جيدًا أنها تعلم أكثر مما أعلم ما بقيس: ابني وابنها... ولكنّها لم تحدثني أبدًا وكتمت كل شيء... أعرف جيّدًا قلب الأم، ولكن في نفس الوقت لا أستطيع أن أتحمّل أن لا يدخل ابني قاعة الامتحان، كنت هذا أتوقعه... دخلت البيت مرّة ثانية وثالثة، ثمّ خرجت ثم دخلت وفي الأخير فاتحتها في الموضوع قائلاً: ماذا يجري يا الوالدة رفعت عينيها إلى السماء، فأمسكت بيديها وجلست إلى ركبتيها، فقالت إنّه ذهب متأخرًا بحوالي نصف ساعة إلى قاعة الامتحان، لقد جلس في المقهى المجاور للمعهد ونسي البكالوريا لقد أخبرني صديقه...اشتدّ بي البرد حينئذٍ وسقطت النظارات، وتوقفت ساعتي على العمل، وأشتدّ بي الجوع والعطش، وارتبكت وأردت الخروج من البيت فلم استطع فتح الباب، فأغمي علي ّداخل غرفتي بين يدي حبيبتي.
في الصباح الباكر كانت قد جهزت السيارة للسفر إلى القرية عند والدي، أخذت مكانها إلى جانبي ولم تنطق بحرفٍ واحدٍ، كنت قد دست على مضغط السرعة وانطلقت إلى الأمام، دون أن أتكلّم ودون أن أشغل الراديو ودون أن أستمع إلى فيروز. تركنا له البيت وخرجنا، لأني لم أعد أحتمل أن أتحدث إليه، لأني لا أحترم إنسانا لا يريد أن يقف لحظة صدقٍ مع نفسه، حتى يعرف من هو...بل من أنا أصبحت؟ و من أنا أمسيت؟ أنا المسكين... التفت إليها فقالت "عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم " صدق الله العظيم، قلت: صدق الله العظيم ولكن " لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" قلت " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" صدق الله العظيم. لم أجد شيئًا حتى أرد عليها سوى « فأمّا الزبد فيذهب شفاءً و أمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"صدق الله العظيم، قالت صدق الله العظيم.
كنت قد تجاوزت القرية ولم يعد لي بدًا في الرجوع إلى الوراء، فدعوتها لقضاء الليل في نزل صغير، حتى أذكرها بشبابها وأنسى هذا الحزن المفاجئ، وأقلب الصفحة من جديد وأمضي إلى الأمام، كانت لم تنم خارج بيتها منذ أكثر من ثمانية عشر سنة، و لم انم خارج بيتي، ولم أنم عند أمي ولم تنم عند أمها، كانت يدها باردة ووجهها أصفر، وغارت عيناها وانحنى ظهرها وكأنها أصبحت في الخمسين، قلت أتريدين كأسا من الشاي، قالت لا بل أريد أن أمشي قليلا، دعنا نمشي ليلا على الشاطئ اقتربنا من الشاطئ رويدا، رويدا، فجلست إليه وأخذت حفنة و شربت منه...كنت أعلم أن الماء مالحا إلى حد المرارة ...تناولت حفنة من الماء البارد وشربت منه... مسكتها من كتفيها حتى تقف بكل ثــــقة وعزيمة أمام الواقع، فبكت مرّة ثانية على صدري، حينئذٍ رجعت بها إلى النزل الصغير فنامت باكية، هذه الغرفة الصغيرة لا تحتوي على شيء يثير الانتباه...أخذت كرسيًا وجلست إلى هذه الشرفة الصغيرة متجها إلي غابة الزيتون، أشعلت كعادتي سيجارة وسحبت نفسا بعيدا، بعيدا، فمضى في الهواء راسما صورًا تشابكت تداخلت فتقاطعت فاندثرت، وأعدت الكرّة مرّة بعد مرة حتى نمت جالسا عند الشرفة...
نهضت كعادتها في الصباح الباكر واغتسلت، ووضعت أحمر الشفاه، فبانت عروسًا جديدة وزادها أناقة وجمالا هذا اللون الأبيض الناصع، أمّا عطرها فكان وسيكون نفسه منذ عرفتها صغيرة... هذا العطر الخاص كان إخلاص منذ ذلك اليوم الذي قابلتها في الجامع،ة وكنّا صغيرين وكانت ولا زالت أجمل من أمي ومن بلدي كانت...هذه أغنيتي المحبذة. لم أتعود المبيت خارج منزلي فكان ظهري يؤلمني وتكاثرت مساميره، فأسرعت حتى أصل المدينة وألتحق بعملي فإني أحيا من أجله ..أمّا منزلي فهو قلعتي، وحديقتي فهي جنتي ولا أكون أنا إلا بهما. فأنا لم أسق الورد البارحة وتركت الياسمين وحيدًا، ولم أجلس إلى تينتي ولم أحادث العصافير صباحًا ولم أشتم رائحة الأعشاب، فهي تناديني، ومضت ساعة أو بعضها ووجدتني أمام حديقتي، وفتحتُ لها الباب فقد عودّتها أن لا تفتح الباب من جهتها، نزلت بهدوء فابتسمتُ لها فقبلتني على خدّي، تركتها وشأنها أمام منزلها وذهبتُ إلى الجامعة، كنت يومها أوّل مرّة أذهب إلى عملي دون أن أكون قد جهزت الدّرس.أتمنى أن يهدأ هذا البركان الذي أشعر به في داخلي، وأستريح بعض الشيء حتى أستطيع أن أنام، وأستطيع أن أقوم بعملي على أحسن وجه، كما أتمنى أن تكون زوجتي بخير، فقد تأثرت كثيرًا، ولعلها تكون قد عدلت على الإنجاب بعد إنجابها لهذا البطل.
عند المساء رأيتني راجعا إلى القلعة، إلى منزلي إلى الحرّية إلى حديقتي، إلى التين إلى الزيتون إلى الورد إلى الياسمين فهم بانتظاري جميعا، أمّا زوجتي فأعرف جيّدًا أني سأجدها عند الباب، ولن تدخل إلا عندما أكون قد جهّزت لها باقة من الورد و ورق التين والعنب و الزيتون، وكانت قد احتفظت بعدّة منها، فجففتها تحت أشعة الشمس ووضعتها قرب مكتبي وفي بعض زوايا المنزل. جلسنا إلى طاولة العشاء كالعادة، ولم أنطق بحرف واحدٍ ولم أسأل عن هذا البطل الكرتوني، أمّه أيضًا لم تحدثني عنه، أين ذهب؟ ماذا أكل و كيف نام البارحة... غير أني اشتممت بعض الرائحة الغريبة، ذكّرتني بالحشيش فوقفت فزعًا و فتحت شبّاكي قاعة الأكل والمطبخ، فقلت لها هل اشتممت رائحة كريهة قالت نعم و لكن لم أعرف طبيعتها... أليست هي رائحة دخان قلت إنها رائحة الرذيلة والحشيش... لقد جاء بهم إلى هنا إلى بيتنا... الآن هنا في بيتي، لقد جاء بالجريمة إلى منزلنا و تناول الحشيش والخمر... و لربما أتى ببعض العاهرات...فإني شممت شيئا آخر في دورة المياه، إن عطرك أعرفه جيدًا، أمّا هذا العطر فهو غريب عنّي...لقد جعل البطل من قلعتي ملهى، وتجاوز بهذا كلّ حدود اللّياقة، ولم يفهم ما معنى الحرية ولم يرحمنا ولم يشعر بنا... لقد داس على الكرامة، لقد دنّس منزلي ولا أعرف ماذا أفعل معه...فقلت: لزوجتي أن نخرج مرة ثانية ونتركه هنا، قالت لا بل يجب أن نفهم نحن بأنه ما زال صغيرًا، قلت 18 عشر سنة يعني مازال صغيرًا فمتى سيكبر ويتحمّل مسؤوليته... طلبت مني العفو والنسيان و ستكلّمه في الموضوع بكلّ هدوء وأن لا أتدخل وأن أنسى كلمة "اعلم"...حالمة كل الحلم أنتِ وسأترك لك هذا الموضوع بكل بساطة، علّني أتمتع بنوع من الراحة في هذا البيت. هل تستطيع زوجتي أن تحادث أبنها في عدّة مواضيع متشعبة، وهل سيقتنع هذا الأخير بوصايا أمّه، أغمضت عيني مستلقيًا على السرير وقلت " أتمنى أن لا يكون قد تعوّد على الحشيش فهذا أمر خطير"، وبانت لي صورًا بشعة ومستقبلا قد أصبح متهما يومًا ما أو شريكًا في تناول المخدّرات. دخلت عليّ وكنتُ أنتظرها بفارغ الصبر حتى أتحدث إليها، فلم أجد لي سميع منذ زمان، جلست إلى جواري و قالت أنّه لم يتناول الحشيش بل يبيعها، فنهضت كالمسعور قائلاً هذا أخطر يا صاحبة البيت، وقرّرت أن أحدثه بنفسي وطلبتُ منها أن لا تتدخّل هذه المرّة. جلس إلى مكتبه في كامل الثقة بالنفس، ووضع أمامه ميزانًا ورأيت على المكتب عدّة أقراص بيضاء:حدّثني، ماذا أنت فاعل بنفسك، بي و بأمك.... حدثني عن أي شيء و ماذا تريد ـ هذا بيتي هذا منزلي وليس خمّارة وليس حانة و قد دنسته، كيف تسمح لنفسك بأن تفعل هذا في بيتي، في هذا الزمن. وقف وقال لأنّك لم تفهم شيئًا، فبدون مال وفير أو أصحاب من ذوي الجاه وذوي الوزن الثقيل لن تصيب و لن تصل إلى الفرح و الحب، منذ سنة كاملة و أنا أبيع و أشتري الحشيش و لي أكبر شبكة مخدّرات و لي مناطقي و استراتيجيتي و لي أحلامي و إني أخرج من بيتك فقد كنت اشتريت بيتا كبيرًا لم تحلم به أنت و كتبك و كرامتك و حرّيتك، أنت يا والدي تعيش في زمن مضى من زمن و لّى...... الماء يجري من تحت قدميك و أنت مازلت تؤمن بحرمة البيت و بيت القصيدة و هلم جرّ...... و أني خارج من مقبرتك هذه و لتعلم أيضًا إني لقاض على أمثالك و لقاطع للأيادي التي تقف أمامي و أمام مناطقي. أنت وحش يا ولدي، أنت سبع بانت أنيابه و إني لن أوشي بك للحكام و لا للسلاطين و لكني طالبٌ منك أن تتخلّى عن عملك هذا فأنك متورّط حدّ العنق و ابحث عن سبيل لخلاصك قبل الطامة الكبرى.
أنا للطامة و ما بعدها، أنا الوحش و السباع من فصيلتي و هذا الوطن جعل من أنيابي بارزة و من مخالبي حديدًا فابتعد عن طريقي و ابتعد عنّي فلولا أمي لما قضيت على أمثالك، أنت السبب في كل هذا....... و إني لأ شاكرك... لأني اتمنّع بالجاه و المال و العباد. و إن لي من النساء ثلاث و السيارات ثلاث و القصور ثلاثٍ. لم أكن اعرف هذا ولم أصدّق ما سمعت إلا عندما أخرج من جيب مكتبه كيس من الأوراق النقدية و كيسًا آخر من الحشيش....... ماذا أفعل و المجرم في بيتي و المجرم ابني و قد يكون له علاقات لا حول و لا قوة لي بها. خرج من المنزل فتنفستُ الصّعداء و عدتُ إليها و لم أحدثها عن شيء فقالت ماذا أنت فاعل بابنك قلت لا شيء سوى قد أكون و تكونين متّهمة يوما ما وقد نقضي ما تبقى من العمر في السجن.... و هذا من أجل الحشيش...... اللّهم فأشهد فإني بريءٌ..... و إني لأتبرّأ من ابني ومن أفعاله مرّت الأسابيع وفرغ البيت و حنّت أمه إليه و كثيرا ما تدخل إلى بيته و تقول كان هنا.......كان صغيرًا ملاكًا لاعبًا ضاحكًا مبتسمًا كامل الوقت.......إني فقدته و فقدت فلذة كبدي و لا أستطيع العيش بدونه........ قلت يا أمّ قيس إما أن أكون غبيا جاهلاً متخلفًا لا أعرف الخير و الشرّ و إمّا إني افهم و أعقل جيّدًا ما يجري حولي.. إن ابنك اختار طريق الشرّ و الإجرام إن ابنك تحوّل إلى وحشٍ،إلى سبعٍ في هذا الغاب و ذلك لأنه أقتنع بأن كل المفاهيم الإنسانيه من صدق و حرية و كرامة لا تعني بالنسبة له شيئًا....... فقد أرسى ما في رأسه من شبكات و أصحاب لا علم لنا بهم فماذا تقولين و هل تعقلين أنّ لا خيار لي إلا إنّي أتبرّأ من ابنك و لن أريد أن يدخل عليّ بعد اليوم... فأنّي مقتنع تمام الاقتناع بمبادئي و تفكيري وإني لن أتنازل على كتابتي و عن قناعتي، ذلك هو السبب الذي من أجله أعيش.......... لا من أجل امرأة و لا من أجل ابنٍ و لا من اجل مال.. إنّي أعيش من اجل حروف وجمل كتبت قبلي و في حاضري وستبقى أبدية لن أريد أن أناقش معك هذه المواضيع ثانيه فأنت تعلمين جيدا من أنا.